تركيا- هزيمة العدالة والتنمية.. رسالة الناخبين وتحديات 2028 القادمة

لم يكن مستغرباً أن يشهد حزب العدالة والتنمية الحاكم في تركيا تراجعاً في نتائج الانتخابات المحلية الأخيرة، وذلك لعوامل عدة. بيد أن النتائج الأولية كشفت عن انحسار بالغ الأثر لم يكن متوقعاً، وهزيمة قاسية للحزب، إذ تفوق عليه حزب الشعب الجمهوري للمرة الأولى في تاريخه. ولم يقتصر الأمر على حفاظ حزب الشعب الجمهوري على بلديات المدن الكبرى، بل امتد ليشمل ضم مدن ومحافظات إضافية في انتصار مدوّ أثار دهشة واستغراب الكثيرين.
النتائج
أظهرت النتائج الأولية غير الرسمية تفوق حزب الشعب الجمهوري على سائر الأحزاب، متجاوزاً حزب العدالة والتنمية منذ تأسيس الأخير. فقد حصد حزب الشعب الجمهوري نسبة أصوات بلغت 37.5%، بينما حل حزب العدالة والتنمية في المركز الثاني بنسبة تصويت 35.6%، وجاء حزب الرفاه مجدداً في المركز الثالث بنسبة 6.1%. هذا التحول يمثل منعطفاً بالغ الأهمية في المشهد السياسي التركي.
وقد فاز حزب الشعب الجمهوري برئاسة بلدية 36 مدينة ومحافظة، من بينها 15 مدينة كبرى و21 محافظة. في المقابل، فاز حزب العدالة والتنمية برئاسة بلدية 23 مدينة ومحافظة، منها 11 مدينة كبرى و12 محافظة. أما حزب مساواة وديمقراطية الشعوب (الذي يخلف حزب الشعوب الديمقراطي "الكردي")، فقد فاز برئاسة بلدية 10 مدن، منها ثلاث مدن كبرى وسبع محافظات. وفاز حزب الحركة القومية برئاسة بلدية ثماني محافظات، وحزب الرفاه مجدداً ببلديتين، إحداهما مدينة كبرى والأخرى محافظة، وحزب الجيد ببلدية محافظة واحدة.
وهكذا، تمكن حزب الشعب الجمهوري، بوصفه أكبر أحزاب المعارضة، من تعزيز موقعه في بلديات المدن والمحافظات، إذ رفع رصيده من 20 إلى 36 بلدية. في المقابل، تراجعت حصة حزب العدالة والتنمية الحاكم من 39 إلى 23 بلدية، وكذلك حصة حليفه حزب الحركة القومية من 11 إلى 8 بلديات. وبينما فاز كل من حزب الرفاه مجدداً وحزب الجيد برئاسة بلديات للمرة الأولى، نجح حزب مساواة وديمقراطية الشعوب في زيادة رصيده من 8 (التي فاز بها حزب الشعوب الديمقراطي سابقاً) إلى 10 بلديات.
علاوة على ذلك، حقق حزب الشعب الجمهوري الأغلبية في المجلس البلدي لكل من بلديتي أنقرة وإسطنبول، اللتين كانتا تحت سيطرة تحالف الجمهور الحاكم في الانتخابات السابقة، وذلك على الرغم من خسارته رئاسة البلديتين لصالح المعارضة.
وفي البلديات الفرعية أو بلديات أحياء المدن الكبرى، رفع حزب الشعب الجمهوري رصيده في أنقرة من 3 إلى 16 بلدية، في حين تراجع حزب العدالة والتنمية من 19 إلى 8 بلديات فرعية من أصل 25. وفي إسطنبول، رفع حزب الشعب الجمهوري رصيده من 14 إلى 26 بلدية، بينما تراجع حزب العدالة والتنمية من 24 إلى 13 بلدية فرعية من أصل 39.
يتضح جلياً التقدم الكبير الذي حققه حزب الشعب الجمهوري، والانحدار الملحوظ الذي شهده حزب العدالة والتنمية، على الرغم من أن الانتخابات الرئاسية والتشريعية التي أُجريت قبل 10 أشهر فقط أسفرت عن نتائج مغايرة تماماً للنتائج الحالية. الأمر الذي يدعو إلى دراسة وتمحيص الأسباب والعوامل التي ساهمت في هذه النتيجة الصادمة للحزب الحاكم، الذي حقق الفوز في جميع الاستحقاقات الانتخابية التي خاضها منذ تأسيسه عام 2001 وحتى الآن.
التصويت العقابي
أشار الرئيس التركي ورئيس حزب العدالة والتنمية رجب طيب أردوغان في خطابه بعد ظهور النتائج الأولية إلى أن "الناخب قد قدم تقديره ورسالته عبر صندوق الاقتراع"، وهي عبارة كثيراً ما تتردد على لسانه، إلا أنها تبقى مفتاحية ومعبّرة عما جرى. إن الفترة الزمنية الوجيزة بين الانتخابات الرئاسية والتشريعية التي فاز فيها أردوغان بالرئاسة وتحالف الجمهور الحاكم بأغلبية البرلمان، وبين الانتخابات المحلية الحالية التي تم عرض نتائجها بالتفصيل، تدعو إلى النظر في أوجه الاختلاف بين الاستحقاقين، والأسباب والعوامل المستجدة.
المؤشر الثالث الذي يدعم فرضية التصويت العقابي، فهو تقدم حزب الرفاه مجددًا في هذه الانتخابات وحلوله في المركز الثالث، وهو حزب إسلامي كان تحالف مع العدالة والتنمية في 2023،
يكمن الفارق بين المحطتين في أن الأخيرة هي انتخابات محلية أو بلدية ذات تأثير محدود على الحياة السياسية في البلاد، بالمقارنة مع الانتخابات الرئاسية والتشريعية. ولذلك، قد يقل فيها التزام القواعد الشعبية بالتصويت لأحزابها. بمعنى آخر، إن خسارة حزب العدالة والتنمية للانتخابات البلدية وتراجعه فيها بشكل كبير لن يؤثر على الاستقرار العام في البلاد، إذ ما زال أردوغان رئيساً للجمهورية، ويتمتع التحالف الحاكم بأغلبية في البرلمان.
يعزز هذا المنظور فكرة "التصويت العقابي"؛ أي إيصال رسائل واضحة للقيادة السياسية عبر صناديق الاقتراع، وهو ما تجلى بوضوح في هذه الانتخابات، وثمة مؤشرات عديدة تدعم هذه الفرضية، وقد صدر هذا التصويت العقابي عن طرفين.
ففي جانب المعارضة، اتجهت أغلب أصوات المعارضة نحو مرشحي حزب الشعب الجمهوري، باعتباره المنافس الأبرز لحزب العدالة والتنمية، وذلك بهدف منع الأخير من الفوز. وشمل ذلك حتى الأحزاب التي قدمت مرشحين خاصين بها، بدليل تراجع نسبة مرشحيها في هذه الانتخابات عن وزنها في المحافظات والمدن المختلفة في الانتخابات السابقة. ففي النتائج النهائية، وباستثناء حزب الشعب الجمهوري والحزب "الكردي" في مناطق الجنوب والجنوب الشرقي، تراجعت أصوات جميع الأحزاب الأخرى بدرجات ملحوظة، ولا سيما حزب الجيد المعارض.
أما الشريحة الثانية، فتتمثل في أنصار حزب العدالة والتنمية أو الشرائح التي طالما صوتت لصالحه، وتحديداً من المحافظين، الذين يبدو أنهم وجهوا له الرسالة الأقسى في الانتخابات الحالية. ففي المقام الأول، تشير نسبة المشاركة المتدنية إلى عزوف واضح عن المشاركة في الانتخابات بين أنصار حزب العدالة والتنمية. فإذا ما استثنينا الانتخابات المحلية عام 2004 (الأولى لحزب العدالة والتنمية بنسبة مشاركة %76.2)، فإن هذه النسبة هي الأقل في الانتخابات المحلية منذ سبعينيات القرن الماضي. كما أن تراجع عدد الأصوات التي حصل عليها الحزب بأكثر من مليوني صوت (15.7 مليون صوت مقابل 18 مليون صوت في 2019)، على الرغم من ارتفاع عدد المصوتين، يعزز هذه الفرضية.
والمؤشر الثالث الذي يدعم فرضية التصويت العقابي، هو التقدم الذي حققه حزب الرفاه مجدداً في هذه الانتخابات وحلوله في المركز الثالث. فهو حزب إسلامي كان قد تحالف مع حزب العدالة والتنمية في عام 2023، ما يعني أنه قريب منه أيديولوجياً ولا يُنظر إليه من قبل الناخبين على أنه خصم بالضرورة، الأمر الذي جعله يشكل "بديلاً آمناً" لبعض الناخبين. في المحصلة النهائية، ثمة من أراد معاقبة الحزب الحاكم فامتنع عن التصويت، وثمة من أبطل صوته، وثمة من توجه إلى أحزاب أخرى، وفي مقدمتها حزب الرفاه مجدداً.
أسباب الهزيمة
عند البحث عن أسباب الهزيمة، نجد عوامل قديمة مستمرة وأخرى مستجدة حديثاً. فمن بين أهم الانتقادات والملاحظات على حزب العدالة والتنمية وحكوماته الأخيرة، الأوضاع الاقتصادية المتردية في البلاد في السنوات القليلة الماضية، والتي لم تتمكن الإجراءات الحكومية المتخذة من إقناع الناخبين بفعاليتها، حتى على المدى البعيد.
ومن بين العوامل المرتبطة بالاقتصاد، نجد شريحة المتقاعدين غير الراضية عن رواتبها التقاعدية وغير المقتنعة بالزيادات الحكومية. وكذلك هناك ما يرتبط بترهل الحزب والحكومة، وهو أمر طبيعي بالنسبة للأحزاب التي تحكم لفترة طويلة. وهناك أيضاً ما طرأ من تغييرات على الحزب منذ تأسيسه، سواء في الفكر أو الخطاب أو الممارسة السياسية أو التحالفات.
هذه الأسباب كانت حاضرة أيضاً في الانتخابات السابقة، وكانت في مقدمة العوامل المسؤولة عن تراجع نسبة التصويت للحزب في الانتخابات التشريعية في العقد الأخير. إلا أن التصويت العقابي في تلك الانتخابات كان سيحمل تكلفة باهظة جداً، تتمثل في وصول المعارضة إلى سدة الرئاسة و/أو أغلبية البرلمان، وهو ما دفع بعض الشرائح إلى تأجيل ذلك إلى الانتخابات المحلية الأخيرة.
أما العوامل المستجدة التي دفعت البعض إلى ما يمكن اعتباره "قرصة أذن" للرئيس التركي وحزبه وحكومته، فهي الموقف من العدوان على غزة. فالشريحة المحافظة على وجه الخصوص كانت غير راضية عن الموقف الرسمي وسقفه، وطالبت مراراً باتخاذ خطوات عملية إضافية لنصرة أهل غزة، وتحديداً ما يتعلق بالتجارة مع دولة الاحتلال، إلا أنها لم تلق آذاناً صاغية. فكان الاحتجاج يتمثل في مقاطعة الانتخابات أو إبطال الصوت أو التصويت لأحزاب أخرى، وذلك كأداة للتنبيه.
وقد انتشرت على وسائل التواصل الاجتماعي صور للعديد من الناخبين الذين أبطلوا أصواتهم بكتابة شعارات داعمة لغزة ومنتقدة لموقف الحكومة "المتقاعس" منها، في إشارة واضحة إلى حضور قضية غزة كمؤثر في النتائج، بعد أن كانت حاضرة بقوة في الحملات الانتخابية. بيد أنه من الصعوبة بمكان تحديد حجم هذه الشريحة بدقة.
الخلاصة
وخلاصة القول، إن نتائج الانتخابات المحلية/البلدية الأخيرة كانت بمثابة رسالة صادمة وحادة لحزب العدالة والتنمية من ناخبيه وأنصاره، بضرورة الإصغاء إلى صوت الشارع والتجاوب معه، وهو ما أكد عليه أردوغان كعادته.
إذ إن نتائج هذه الانتخابات تدق ناقوس الخطر بشأن الانتخابات الرئاسية والتشريعية المقبلة في عام 2028، والتي قد يكون أحد مرشحيها الرئاسيين رئيس بلدية إسطنبول الكبرى أكرم إمام أوغلو، لا سيما أن الحزب الحاكم قد يخوضها بدون أردوغان، حصانه الرابح في جميع الجولات الانتخابية السابقة.
وعليه، سيكون أمام أردوغان وحزبه أربع سنوات لاستعادة ثقة الناخبين والاستعداد لانتخابات عام 2028، وذلك في حال أثبتا جدية في التجاوب مع رسائل صناديق الاقتراع بشأن التغييرات والتحسينات الجوهرية والحقيقية المطلوبة، وليست الشكلية.
